في عتمة السجون حين يضيق المكان والزمان، تولد من وجع القيد أصوات تُظشبه القصيدة.
هكذا تحدثت فاطمة، المحامية ابنة السموع، المولودة في تشرين الثاني من عام 1995، عن وجعها المتراكم خلف جدران سجن "الدامون"، وعن حبستها التي بدأت في ليلة قال فيها الناس "كذبة أول نيسان"، لكنها كانت أصدق ما عرفت من القهر.
"أكثر شي اشتقت لأبوي" بهذه الجملة المرتجفة بدأت فاطمة حديثها، تجهش بالبكاء حين طمأنوها على والدها، ثم تستدرك سريعا: "لازم تحكي معو صوت وطمّنه عليّ"، فالأب ليس فقط حائط البيت، بل وسادة القلب حين تقسو الحياة.
تسأل عن حسّون وعلي وعثمان.
تفرح أن حسّون صار ينادي "فطوم"، وأن علي أنهى امتحاناته ويدعو له بمعدل يفوق 98، وتنتظر عودة عثمان آخر الشهر وكأنها تستمد من تفاصيلهم اليومية أسبابا إضافية للبقاء.
لكنها لا تُخفي ألمها: "أكثر شي ضغطوا الكلبشات على إيدي وإجري، بالقمعة الكبيرة قال مدير القسم للكلب: هاي فاطمة، اهجم عليها".
انخلعت يدها من شدة القيود، ونزف الدم من راحتيها.
طلبت مشدًا لإصابة يدها فرفضوا.
طلبت منذ شهر علاجًا لأسنانها فلم يستجيبوا.
تقول ساخرة من وصفهم لها:
"بنادوني الشيخة المتدينة الكبيرة"، ثم تستدرك: "بس فش حرامات، فش ملابس داخليّة كفاية، ومحرومين من الساعة".
ومع ذلك، لا تنكسر بل تبدأ بحفظ القرآن وتقوم الليل، ثماني ركعات من نور وسط العتم.
المكان؟ غرفة رقم 7.
أما الرفيقات، فدلال الحلبي، كرم موسى، ومن بعد، أسماء تشتاقهن وتبعث لهن السلام: لينا مسك، لينا المحتسب، تهاني أبو سمحان، تسنيم عودة، أسيل حماد، إسلام التي تنتظر صور أولادها يوم المحكمة، وسالي صدقة التي تشتهي قهوة "بنات الدامون" على باب دار صدقة.
وتضيف فاطمة تفاصيل "الحرمان الغذائي" الذي طال ثلاث غرف (11، 12، 13) وأغلب الطعام، إذ باتت وجباتهم لا تسد رمقا، ولا تحترم آدمية.
وفي تفاصيل الأحلام الصغيرة:
"أول ما أطلع بدّي كيكة الأناناس من أسماء، وكاسة شاي مع أبوي عالساعة ستة الصبح، وحنين مع المكدوس، ومحمد بفنجان القهوة، وحسّون بإيد، وعيّوش نايمة ع تختي"
كل شيء في البيت لها، تقول. كل التفاصيل الصغيرة تشكل وطنا شخصيا تقاتل من أجله.
ثم تختم، وعلى شفتيها أمنية قيد التأجيل: "نفِسنا نلفّ بحيفا قبل الترويحة"
وكأنها تقول: لا نطلب أكثر من وطن نراه بأعيننا، ونسير فيه بحرية قبل أن نعود لمن نُحب.