لم يكن الجوع وحده ما أفزعهم، بل تلك الأيدي الغريبة التي امتدت من خلف المتاريس لتسحبهم من بين ركام الجوع إلى غياهب السجون. عشرة أطفال فلسطينيين، لا تتجاوز أعمارهم حدود المراهقة، خرجوا من بيوتهم المهشمة في رفح باحثين عن كيس طحين أو علبة طعام، فعادوا بعد أسابيع من الغياب بوجوه منهكة وعيون فارغة من الحياة.
اعتقلتهم قوات الاحتلال الإسرائيلي قرب مركز توزيع مساعدات شمال مدينة رفح، وهي المنطقة التي تحولت خلال الأسابيع الماضية إلى مسرح دم، حيث كان يُطلَب من الأهالي المجازفة بأرواحهم وأرواح أطفالهم لعبور معبر “كرم أبو سالم” أملاً في الحصول على غذاء يسد رمقهم. وهناك، في تلك النقطة التي تحوّلت إلى فخ إنساني، خُطف الأطفال العشرة واحداً تلو الآخر، دون تهمة، ودون حتى أن يُسمح لعائلاتهم بمعرفة مكان احتجازهم.
كانوا مجرد أطفال يبحثون عن البقاء، وهم:
عماد مصطفى محمد أبو طعيمة، محمود عصام محمود أبو حدايد، مؤمن هاني عبد العزيز أبو هجرس، هلال إبراهيم منصور البشيتي، كرم حمدي عبد الرحمن حسين، فارس سليمان صالح أبو جزر، قصي كايد توفيق الزازا، أحمد محمد فضل الحلو، معاذ سيد سالم، وطفل عاشر لم يُعرف اسمه بعد، لكن عُرف وجهه المنهك حين خرج إلى الحرية خائفًا وصامتًا.
الاحتلال الذي حوّل لقمة العيش إلى جريمة، ودمعة الطفل إلى خطر أمني، احتجز الأطفال لأسابيع في ظروف غير إنسانية، قبل أن يُفرج عنهم بصمت مساء اليوم، عبر نفس المعبر الذي اختطفوا منه. خرجوا حفاة، بأجساد منهكة، ووجوه فقدت لون الطفولة، وأعين لا تقوى على النظر طويلاً من شدة الذهول. بعضهم لم يكن قادراً على الحديث، بينما حاول آخرون أن يهمسوا بما حدث خلف القضبان، لكن صوتهم كان مكسوراً، كأنهم ما زالوا هناك.
في أحد المشاهد المؤلمة التي وثقتها الكاميرات، يقول أحد الأطفال المحررين: “عذبونا.. مش قادر أحكي ولا عارف أحكي”. هذه العبارة وحدها كفيلة بأن تختصر ما لا يمكن أن تُحكيه عشرات التقارير. كانت وجوههم كأنها خرجت من رماد القهر، لا من مركز اعتقال، كأنهم دُفنوا أحياء في ظلمة لا نور فيها، وأُعيدوا إلى الحياة عنوة.
لم يفرج عنهم لأن الاحتلال رأف بهم، بل لأن فظاعة ما ارتُكب أصبحت أثقل من أن تُخفى.
الصور التي انتشرت، والتقارير التي كشفت عن اختفاء أطفال قرب مراكز المساعدات، وضعت الاحتلال أمام موجة ضغط دولية متصاعدة، خاصة بعد تقارير لمنظمات حقوقية تؤكد أن أكثر من نصف الضحايا الذين سقطوا خلال عمليات توزيع المساعدات كانوا من الأطفال.
ليست هذه المرة الأولى التي يستهدف فيها الاحتلال أطفال غزة تحت ذريعة الأمن، لكن هذه المرة بدت أقسى، لأن الجريمة لم تكن فقط حرمانهم من الطعام، بل معاقبتهم على محاولتهم النجاة.