بعض الابتلاءات تُصنَّف في خانة المنح الربانية والعطاءات، فأسرى سجون الاحتلال ما زالوا يسطرون سطورًا من الكرامة والعزة.
ولا أجمل من زوجة أسيرٍ تقول إن زوجها، رغم اعتقاله لسنواتٍ طويلة، لا يزال الداعم الأبرز لعائلته في جميع شؤون حياتها، جزءٌ لا يتجزأ من تفاصيل يومهم، وإن غاب بالجسد، فحضوره لا يغيب؛ يستشيرونه في كل أمر، وكأنه بينهم، وأبٌ لأطفاله أكثر من كثيرٍ من الآباء خارج السجون.
رغم أن أبناءه كانوا صغارًا حين تركهم ليعانق طريق التضحية، إلا أنهم لا يزالون يؤمنون بأن حريته قريبة، وإن طال موعد الانتظار.
عائلة الأسير بهيج محمد محمود بدر (50 عامًا) من بلدة بيت لقيا قضاء رام الله، نموذجٌ لعائلةٍ متماسكةٍ عصفت بها ريح الابتلاءات، لكنها آمنت بمنحها وعاشت عطاءاتها. وبعد واحدٍ وعشرين عامًا من الاعتقال، لا تزال العائلة تخوض معارك لا يعلم بها أحد، فقصتها لا تختزل في حكم المؤبد المكرر 18 مرة، رغم فداحة هذا الحكم إنسانيًا وحقوقيًا.
هذه العائلة عاشت محطاتٍ من الألم والفقد والانتظار، لكنها لم تفقد البوصلة ولا الإيمان.
يواصل مكتب إعلام الأسرى تسليط الضوء على الأسرى أصحاب الأحكام المؤبدة، أولئك الذين يخوضون معركتهم وحدهم في سجون الاحتلال، في محاولةٍ لإبقاء صور تضحياتهم ونضالهم حاضرةً في الذاكرة الوطنية، ولإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرواحٍ تُستنزف تحت سياسات التجويع والتنكيل والضرب الممنهج، لا سيما بعد حرب الإبادة على غزة.
تقول أم عمر، زوجة الأسير بهيج بدر، حارسة بيته وجندية معركته المجهولة: "ثلاث صفقات حرية مرت ولم يكن لبهيج نصيبٌ فيها، والحمد لله على كل حال. منذ العام 2004 وهو خلف القضبان، ونحن هنا ننتظره. مضى 21 عامًا وثلاثة أشهرٍ على غيابه، ولا زلنا على يقينٍ أن الحرية ستأتي، وإن طال الموعد".
وتؤكد زوجته أن بهيج حتى هذه اللحظة لا يعلم أن صفقة التبادل قد تمت، ولا أنه لم يكن ضمن مراحلها النهائية. كما لا يعلم أن شقيقه باهر بدر، المحكوم بالسجن المؤبد 12 مرة، قد نال حريته في صفقة طوفان الأحرار 3.
وتقول: "معنويات بهيج دائمًا عالية، وإيمانه قوي لا يزعزعه شيء. تلقينا خبرًا أوليًا بإدراج اسمه مع شقيقه باهر، لكن لاحقًا لم يُدرج نهائيًا في القائمة. كانت أيامًا صعبة، لكننا نحمد الله على حرية باهر، ونأمل أن تصل الأخبار لبهيج بأن أخاه أصبح حرًّا".
أما عن آخر زيارةٍ له، فتقول: "كانت في يوليو الماضي عبر المحامي، الذي أخبرنا بأن وضع السجون مأساوي؛ الأكل سيئ، والتجويع مستمر، والأمراض الجلدية منتشرة بين الأسرى. وأكثر ما آلمني أن بهيج طلب ألّا يُزار مجددًا بسبب ما يتعرض له من تنكيلٍ أثناء نقله للقاء المحامي".
ويؤكد الأسير بهيج بدر أن إدارة السجون تُمارس بحقه تعذيبًا متعمدًا أثناء الزيارات، حيث يتم توقيفه لنحو 12 ساعة يتعرض خلالها للضرب والإهانات. وقد تكررت هذه السياسة بحق العديد من الأسرى، خصوصًا ذوي الأحكام العالية، ما يدفعهم إلى التخلي عن حقهم في الزيارة لتجنّب الألم، في مشهدٍ يختزل فظاعة السجون الإسرائيلية.
المحرر باهر بدر نال حريته بعد 21 عامًا من الاعتقال، إذ اعتُقل في اليوم ذاته الذي اعتُقل فيه شقيقه بهيج، بتاريخ 27 تموز/يوليو 2004، بعد محاصرة منزليهما في بيت لقيا والرملة بالتزامن. وبخروجه، تمكنت العائلة أخيرًا من معرفة أخبار بهيج في ظل انقطاع زيارات المحامين، وانعدام زيارات الأهالي منذ فرض الاحتلال حالة "الطوارئ" على السجون عقب حرب الإبادة على غزة.
وأكد باهر أن شقيقه فقد وزنًا كبيرًا نتيجة سياسة التجويع، ولا يزال في سجن جانوت، ولم يعلم بعد أن شقيقه نال حريته، كما أكد ذلك أسرى محررون خرجوا من السجن ذاته.
ورغم مرور أكثر من عشرين عامًا على اعتقاله، لا تزال عائلة الأسير بهيج بدر تتعرض لاعتداءات الاحتلال؛ إذ اقتُحم منزلهم مراتٍ عديدة، وتلقت العائلة مؤخرًا قرارًا بوقف البناء في منزلهم، في مشهدٍ انتقاميٍ جديد، وكأن الاحتلال يأبى أن ينهي صراعه مع حجارة بيتهم، كما يأسر مستقبل والدهم وطعم حريتهم.
أما والدة الأسير، فامرأةٌ صابرة ذاقت ويلات القهر؛ حرمت من حرية نجلها ثلاث مراتٍ حين لم يُدرج اسمه ضمن قوائم المفرج عنهم، واعتُقلت هي نفسها تسعة أيام للضغط على نجليها بهيج وباهر. واليوم، تُحرم من حق السفر لاحتضان ابنها المحرر باهر، إذ يعاملها الاحتلال معاملة الأسيرات المحررات. ومع ذلك، لا تزال تعد الأيام على أمل أن تحتضن نجلها الآخر يومًا ما.
الأسير بهيج بدر أبٌ لثلاثة أبناء: إيمان (25 عامًا)، عمر (23 عامًا)، وجمان (21 عامًا) التي لم يتجاوز عمرها 37 يومًا عند اعتقال والدها.
تصف زوجته علاقة أبنائه بوالدهم قائلة: "أبنائي متعلقون بوالدهم كثيرًا، يحبونه فوق حد الوصف، وقد ذاقوا تعب الزيارات معنا. والدهم يعرف كيف يحتضنهم رغم بعده، فهو إنسان راقٍ في تعامله، يربّيهم بالحوار لا بالأوامر، ويمنحهم من قلبه ما يعجز كثير من الآباء الأحرار عن منحه".
ورغم ظروف الأسر القاسية، لم يتوقف بهيج عن العطاء؛ فقد أتم حفظ القرآن الكريم بالسند المتصل، ونال درجة البكالوريوس في التجارة والماجستير في الاقتصاد الإسلامي. كما كان داعمًا قويًا لزوجته التي تابعت تعليمها حتى نالت الماجستير بدعمه وتوجيهه المستمر من داخل الأسر.
تقول أم عمر: "بهيج لم يغب عن بيتنا يومًا، يعرف تفاصيلنا، يتابع دراستنا، ويشارك أبناءه أحلامهم كما لو كان يعيش بيننا بحرية تامة".
اليوم، تُحرم العائلة كآلاف عائلات الأسرى من حق الزيارة، وتصلهم الأخبار من السجون بأبشع الصور: طعامٌ لا يُؤكل، نظافةٌ معدومة، وإهمالٌ طبي متعمد.
لكنهم، رغم ذلك، ما زالوا مؤمنين بأن الحرية قريبة، وبأن بهيج سيعود يومًا كما غادر: شامخًا، نقيًّا، يزرع الكرامة في دروب الحياة.