سجون ما بعد الموت: الشهداء الفلسطينيون بين الثلاجات ومقابر الأرقام
تقرير/ إعلام الأسرى

لم يكن الموت نهاية الطريق بالنسبة لأسرى فلسطين، بل امتدادٌ آخر للنكبة، حيث تتحول جثامين الشهداء إلى رهائن معلقة بين ثلاجات الاحتلال ومقابر الأرقام، بين قانون القوة وسلطة الإنكار. فمنذ بدء الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، لم تكتف المؤسسة الإسرائيلية بسلب حرية الفلسطينيين وهم أحياء، بل طوّرت منظومة كاملة لاحتجازهم حتى بعد استشهادهم، داخل مدافن معزولة، بلا أسماء ولا شواهد، لا تُعرف تفاصيلها إلا برقم معدني وقرار عسكري.

مقابر الأرقام، هذه المنطقة المجهولة على هامش الجغرافيا، تشكل لدى الفلسطيني سجون ما بعد الموت، يتم فيها دفن جثامين مئات الشهداء في قبور ضيقة، توضع داخل أكياس بلاستيكية سوداء، وتُرقم بعلامات معدنية. يُمنع الوصول إليها، وتُدار بالكامل من قبل الجيش الإسرائيلي، دون علم ذوي الشهداء، ودون إجراءات دفن تليق بكرامة الإنسان.

ما يُمارس هناك هو سياسة معلنة وإن غُلّفت بقرارات أمنية: إبقاء الجثامين كورقة مساومة، أو وسيلة عقاب لعائلات الأسرى والمقاومين.

خلال العقدين الأخيرين، تزايدت حدة هذه السياسة، لا سيما بعد الانتفاضة الثانية وما تلاها من عمليات أسر وتبادل. وتحول الاحتجاز إلى سلاح تفاوضي ضمن استراتيجية أمنية، يعترف بها قادة الاحتلال دون مواربة

وفقاً للمراكز الحقوقية الفلسطينية والإسرائيلية،

.  بات عدد الجثامين المحتجزة يقارب 684 جثمانًا، منهم ما يزيد عن 250 في مقابر الأرقام، والباقي في ثلاجات الاحتلال. وبين هؤلاء، 17 شهيدًا من شهداء الحركة الأسيرة الذين قضوا نحبهم داخل السجون، بعضهم نتيجة الإهمال الطبي، وآخرون بسبب التعذيب أو القتل المباشر، ورغم ذلك ما زالت جثامينهم حبيسة قرار عسكري.

تُثير هذه الممارسة قلقاً متزايدًا في الأوساط الحقوقية والقانونية، لا لكونها تنتهك قواعد القانون الدولي الإنساني فحسب، بل لأنها تكشف عن جانب مظلم في إدارة العلاقة مع الفلسطيني: حتى الميت ممنوع من الحضور، حتى الحداد عليه يصبح ممنوعًا، وكأن الغياب الجسدي يجب أن يكتمل بمحو رمزي وذاكري.

التطور اللافت اليوم هو ما كشفت عنه عائلة الشهيد الأسير وليد دقّة، بعد إبلاغهم رسميًا بنية الاحتلال نقل جثمانه المحتجز منذ أكثر من عام وشهرين إلى إحدى مقابر الأرقام. الشهيد دقّة، أحد أبرز رموز الحركة الوطنية الأسيرة، كان قد توفي داخل مستشفى “أساف هروفيه” في أبريل 2024 بعد صراع طويل مع المرض، وحرمان ممنهج من العلاج، رغم إدراك سلطات السجون لوضعه الصحي المتدهور. لم يُسلّم جثمانه منذ وفاته، وظل حبيس الثلاجات، قبل أن تعلن السلطات الأمنية مؤخراً قرارها بنقله إلى المدافن السرية.

الخبر لم يكن صدمة للعائلة فحسب، بل أثار ردود فعل غاضبة بين النشطاء الحقوقيين، الذين اعتبروا القرار شكلًا من أشكال “الانتقام المؤجل”. وكردٍ قانوني عاجل، قدّم مركز “عدالة” التماسًا إلى المحكمة العليا الإسرائيلية باسم العائلة، يطالب فيه بمنع نقل الجثمان إلى مقابر الأرقام، والاحتفاظ به في الثلاجات إلى حين تسليمه لذويه. وجاء في الالتماس أن قرار الدفن المؤقت يشكّل “انتهاكًا صارخًا لحقوق العائلات وكرامة الشهداء”، ويعبّر عن توجّه مؤسسي لإخضاع الموتى إلى منظومة العقوبة ذاتها التي عانى منها الأسرى في حياتهم.

في سياق هذا الاجرام الممتد، يبرز السؤال الأخلاقي قبل القانوني: ماذا يعني أن يُدفن الإنسان من غير اسمه؟ أن يُسلب من أهله مرتين: مرة عند الاعتقال، ومرة أخرى حين يُحرمون من وداعه الأخير؟ كيف يمكن لمنظومة تدّعي الديمقراطية أن تُصادر حتى طقوس الحزن والدفن والحداد؟ وهل يتحول الموت هنا من فعل بيولوجي إلى عقوبة سياسية؟

يُدرك الفلسطيني أن الشهادة ليست نهاية الحكاية، وأن جثمان الشهيد قد لا يُسترد بسهولة، كما حدث مع مئات الشهداء من غزة والضفة والداخل المحتل. لكن في حالة وليد دقّة، الأمر يتجاوز كل حسابات الردع. الرجل الذي قضى 38 عامًا في الزنازين، وكتب داخلها، وفَكر وحلُم، لا يزال محرومًا من دفن يليق به. هو الذي كتب “سر الزيت”، وعلّم الأجيال أن “الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع”، يجد نفسه اليوم مرقمًا، مهددًا بالدفن تحت لافتة منسية، في أرض لا يُسمح لأحد بزيارتها.

جميع الحقوق محفوظة لمكتب إعلام الأسرى © 2020