في القبور لا تُروى الحكايات... لكن معتقلي غزة يروونها
تقرير/ إعلام الأسرى

في الزنازين المعتمة، حيث لا يُعرف للنهار طعم ولا لليل معنى، يُروى الجحيم بحناجر محطّمة، وأجساد نزفت حتى صارت لا تميّز الألم من الصمت... هناك، خلف القضبان، في سجن النقب، في "ركيفت" المدفون تحت الأرض، وفي معسكرات "عوفر" و"سديه تيمان" و"البركسات"، يعيش معتقلو غزة ما يشبه حفلة تعذيب جماعية، مستمرة، بلا نهاية.

(ع.ي) لم يكن يعلم أن نجاته من القصف في مستشفى الشفاء ستكون بداية لانهياره الجسدي والنفسي... اقتادوه للتحقيق، جلده المحققون بـ"سيخ" من حديد على رأسه، فسال الدم، وبقي الجرح مفتوحًا... لم يسعفه أحد، وما تزال عينه ترى العالم مشوشًا منذ ذلك اليوم، ودوار لا يفارقه.  

لم يكفِهم ذلك، فعادوا إليه في آب، هذه المرة استخدموا "الديسكو" – ذلك النوع من التعذيب بالصوت الصاخب حتى تتشقق الروح – ثم صبوا الماء فوق جرحه العميق... تعفّن الجرح، خرج القيح، وامتدت الالتهابات إلى أعماق جمجمته، أما هو، فقد قضى 49 يومًا في زنزانة ضيقة، وحده، مع جرحه.

(ى.أ) جلس مكبّلًا، ينهال عليه الضرب من كل جانب، تكسّرت أضلعه، ونتفوا شعره من رأسه... في سجن الرملة، لم يكن بإمكانه النوم بسبب الألم، فكان ذلك مبررًا إضافيًا للضرب.. حين سأله المحامي عن حاله داخل "ركيفت"، بكى. نعم، بكى رجل في الزنزانة... كانت الدموع ممنوعة، لكن الخوف كان أعمق من كل محظور.

(أ.ي) جلس على ركبتيه في "عسقلان"، يضربونه على ذات الركبتين حتى تتورم فلا يستطيع الوقوف، ثم يجبرونه على الجلوس من جديد... ظلّ على هذا الحال ساعات... وفي "عوفر"، وجد نفسه وحيدًا في زنزانة دون نوافذ، دون ضوء، دون إنسانية... كان التحقيق صاخبًا، الألم لا ينقطع، والموت يتربص به كل لحظة.

في زاوية أخرى، كان (ل.ع)، رجل ضرير، لا يبصر شيئًا سوى العتمة التي فرضتها عليه الحياة.. فقد زوجته، وأولاده، وحفيداته، دون أن يعلم إلا بعد شهور.. في سجن النقب، أخرجوه مع رفاقه من القسم، ضربوهم، ثم قيدوهم في قفص لساعات.. أصيب بمرض "الجرب"، ولم يقدم له علاج، يعاني من ألم بالكلى والبطن، لكن من يهتم؟ من يسمع أنين ضرير فقد عائلته ويعذّبونه رغم كل شيء؟

(ب.ة)، مصاب في الظهر، خضع لعملية جراحية، لم يُمهلوه يومًا في المستشفى، أعادوه إلى السجن فورًا.. يتنقّل بلا علاج، يجمع فتات الطعام ليأكله دفعة واحدة في آخر الليل.. إنه ليس وحده، كلهم يفعلون ذلك، فالحصص التي يتلقونها بالكاد تكفي لبقاء الجسد حيًا.

أما (د.ت)، الطبيب الذي صار رقمًا في ملفات المعتقلين، دفع ثمن مهنته.. حين عرف السجّانون أنه طبيب، طلبوا منه الركض والانحناء، وحين فشل جسده في تلبية الأمر، جرّوه أرضًا وركلوه حتى أصيب بأزمة قلبية.. تكررت معه المشاهد نفسها لاحقًا، في "نفحة" و"النقب"، حيث تم عزله في زنزانة بلا دورة مياه، بلا سرير، بلا هواء.

أحد المعتقلين، حين وُصف له معسكر "عوفر"، قال: "كأننا في القبور".. في النهار تُسحب البطانيات، في الشتاء يُمنعون من التدفئة، الرطوبة تأكل جلودهم، والملابس تُبدّل كل أربعة أشهر، مستعملة، بالية... لا يُسمح لهم بالكلام، من يتحدث يُعاقب، من يتنفس بصوت مرتفع يُضرب، ومن يتألم يُنسى.

كل هذا لم يكن روايات مبالغًا فيها.. هذه إفادات قانونية وثّقتها هيئة شؤون الأسرى ونادي الأسير الفلسطيني، بين أواخر أيار وبداية حزيران.. إفادات نُزعت من حناجر رجال خائفين، محطمين، لا يعرفون إن كانوا سيعيشون لغدٍ، بعضهم فقد زوجته، وبعضهم أبناءه، وهم لا يعرفون، أو علموا ذلك في زنزانة.. بعضهم يقبع في العزل منذ شهور، وبعضهم يعاني أمراضًا جلدية وقلبية وعصبية مزمنة دون أن تُقدم لهم حبة دواء واحدة.

45 شهيدًا من معتقلي غزة وحدهم الذين عُرفت هوياتهم، من أصل 72 أسيرًا ومعتقلًا استشهدوا منذ بدء الإبادة... لكنّ القائمة أطول، والأسماء أكثر، والظلام أعمق. هناك من لا تزال جثامينهم مجهولة، أو مدفونة في أرض لا يعرفها أحد، أو لم تُنقل أخبارهم بعد.

الاحتلال لا يترك فرصة للتفنن في القمع، بينما العالم يراقب بصمت، وتنزف العدالة حتى الموت.

في "ركيفت" يموت المعتقل خوفًا قبل أن يموت تعذيبًا.

في "عوفر"، تتكاثر الطفيليات في جروح السجناء.

في "النقب"، الجرب أصبح رفيقهم الوحيد.

وفي "عسقلان"، الشبح على الكرسي صار صلاة الليل.

وهكذا، تُكتب مأساة معتقلي غزة كل يوم، لا بالحبر، بل بالدم.

بالعظام المكسورة، بالعيون التي لم تعد ترى، بالقلوب التي اختنقت في الصمت، وبالقصص التي لن تُنسى، حتى لو غابت عن نشرات الأخبار.

جميع الحقوق محفوظة لمكتب إعلام الأسرى © 2020